علاقة الوعي بالذات ومحيطها وحدود عمله

علاقة الوعي بالذات ومحيطها وحدود عمله

علاقة الوعي بالذات ومحيطها وحدود عمله

مفهوم الوعي واللاوعي وعلاقة الوعي بالذات من مجزوءة ما لانسان
مفهوم الوعي


عندما يطرح المرء سؤالا حول موضوع ما، أو عندما يتساءل حول ذاته أو ذوات الاخرين ويفكر فيها، فهو بذلك يلجأ إلى وعيه، لأن الوعي يحضر في كل لحظة طرح فيها السؤال من طرف الذات، ويحضر كلما سعت الذات إلى بناء معرفة حول موضوع معين، وبهذا يبدو بأن الوعي غير منفصل عن وجود الإنسان، وبالتالي يمكن القول بأنه شرط ضروري لكل ممارسة ممكنة من طرف الإنسان، سواء كانت هذه الممارسة فكرية أو كانت عملية، فالوعي دائما حاضر في أنشطة الإنسان وممارساته، وهذا قد يستدعي البحث في الدلالة اللغوية والفلسفية لمفهوم الوعي، لكن هذا الأمر قد تطرقنا له في سياق آخر يمكن الإطلاع على ذلك الموضوع بعنوان الدلالة اللغوية والفلسفية لمفهوم الوعي من هنا، بحيث يعتبر ذلك المقال مدخلا لهذا المقال، الذي سنحاول من خلاله الوقوف عند علاقة الوعي بالذات، وعلاقته بالآخرين وبالعالم، وفي الأخير سنتوقف عند حدود عمل الوعي.

محتويات الموضوع

  1. علاقة الوعي بالذات ومحيطها وحدود عمله.
  2. الوعي تفكير في الذات،
  3. انفتاح الوعي على محيطه.
  4. حدود عمل الوعي.
  5. ملاحظة هامة.

الوعي تفكير في الذات

عندما يتساءل الإنسان عن المستوى الأكثر بساطة ومباشرة في الوعي، عن محتواه الأولي، أي عن الوعي كمعطى مباشر، تدخله هذه المساءلة في صميم التفكير في الذات، فماذا يعني التفكير في الذات؟ يقول أغسطين (354-430م) عندما نزيل من ذهننا ما نستقبله عن طريق الحواس، فلا يتبقى لنا من أشياء نعرفها سوى أننا نحيا -وأمام هذا الوعي الأولي، على المرء ألا يخاف أو يخدع، لأن المخدوع نفسه يحيا- فهذا الوعي بالحياة يمنح للذات معرفة لا يمكن دحضها: يمكن الإنسان من التفكير في الذات، وفي طبيعة وجودها، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يوجد ويعي أنه يوجد، فهو يوجد في مواجهة العالم كوجود خارج ذاته، ذلك العالم الذي يتحول بواسطة الوعي إلى موضوع للفهم والمعرفة والتحويل، غير أن هذا التفكير في الذات والوعي بها مرحلة أساسية من حياة المرء جعلها كانط مشروطة ببداية نطق الطفل بضمير المتكلم "أنا"، فبماذا يتميز هذا الأنا؟.

شاهد أيضا


إن الألماني إيمانويل كانط يرى بأن "الأنا" يتميز بثلاث خصائص أساسية: الخاصية الأولى وهي أنه يمثل جوهر مطلق وفريد بحيث لا يمكنه أن محمولا على شيء آخر، فالأنا تعبير عن ما هو جوهري وأساسي Le Substantiel. أما الخاصية الثانية وهي أنه بسيط بمعنى متفرد بشكل دقيق، وهو بذلك يشكل وحدة مطلقة، ثم إن الخاصية الثالثة وهي أنه لامادي Immateriel، فالإنسان كائن روحي، يحلل رمزيا ما يفكر فيه، وينظر إلى ذاته ليس كموضوع بمعنى الموضوع الخارجي، إن الآنا حاضر في المكان دون أن يحتل حيزا في هذا المكان لأنه وجود لا مادي.

وهكذا، فمن خلال النطق ب"الأنا" يصبح الإنسان شخصا واحدا وفريدا متميزا عن الآخرين، يمتلك هويته داخل عالم متعدد ويسعى للحفاظ عليها رغم التحولات التي تطرأ عليه في حياته فيما بعد، سيجد نفسه يمتلك جسما هو جسمه الخاص، وفكرا هو فكره الخاص، كانت علاقته بذاته في السابق لا تزيد عن الإحساس بها، أما الآن، وبفضل أناه، فقد أصبح يفكر في ذاته، وبالتالي، كيف تم طرح مفهوم الأنا في تاريخ الفلسفة؟ هل الذات جوهر متعال ومستقل عن الوعي بأشياء العالم الخارجي؟.

لقد تم طرح مفهوم الذات في سياق نظري وتاريخي أراد أن يعلي من قيمة الإنسان وقدرته على إنتاج المعرفة وعلى السيطرة على العالم، وارتبط مفهوم الذات -ابتداء من فلسفة الفرنسي رونيه ديكارت في القرن 17 م على وجه الخصوص- بمفاهيم الحقيقة والأصل والجوهر والتفكير...، ويعتبر ديكارت أول من بلور تصورا فلسفيا خاصا عن مفهوم الذات، ففي اعتقاده أن الذات شيء يفكر، هذا الشيء المفكر يبلغ الحقائق المختلفة دونما حاجة إلى المعرفة التي نستقيها بواسطة الحواس، وعندما تفكر الذات وفي اللحظة التي تفكر فيها فهي تعي وجودها بمعزل عن اتصالها بأشياء العالم الخارجي، إن الذات تدرك ذاتها كجوهر مفكر، باعتبار أن طبيعة الإنسان هي التفكير، وأول حقيقة يتوصل إليها الفيلسوف تتعلق بإثبات وجود الذات من خلال عملية التفكير (الكوجيطو) "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وهي حقيقة تتميز بالوضوح والبساطة.

أصبحت الذات إذن منتجة لحقائق مطلقة لا يرقى إليها الشك، بل إن هذا الوجود الخاص للذات هو أساس وأصل جميع الحقائق الأخرى، لكن ألسنا بعد هذا الإعلاء من شان الذات أمام إقصاء البعد الأساسي من أبعاد الوعي وهو البعد الخاص بالزمان؟، ألا تعيش الذات تاريخا نفسيا خاصا؟ إن ما يميز الإنسان كوعي هو استناده إلى الذاكرة وإلى الماضي وانفتاحه على المستقبل، فالوعي هو صلة بين بين ما مضى وبين ما هو آت، وحقيقة الوعي توجد في ذاتية كل وعي شخصي، وهذا ما جعل الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون ينفي كل تشيئ للوعي أو التفكير، فليس الوعي شيئا، بل هو زمان أصلي يعاش ذاتيا وليس له وجود موضوعي، وهو ديمومة وتدفق للمعيش حيث يصعب التمييز فيه بين الماضي والحاضر والمستقبل، لكن ألا يمكن اعتبار الوعي مع ذلك معرفة ذاتية محضة؟ ألا تطرح علينا مشكلة معنى معرفة الوعي لذاته؟ وهل يحقق الوعي فعلا معرفة بالذات؟ وإذا كان كذلك فهل يمكن التفكير في الذات بمعزل عن التفكير في العالم؟.

انفتاح الوعي على محيطه

رأينا مع كانط كيف أن الأنا يفكر في الذات، لكن هذا التفكير في الذات لا يمنح للإنسان معرفة بذاته كجوهر مستقل، ذلك أن حقيقة الذات كجوهر لا يمكن إدراكها كما ندرك عالم الظواهر والأشياء، يقول الألماني إيمانويل كانط "لدي وعي بذاتي... لا كما اتجلى لذاتي ولا كما أنا في ذاتي، ولكن لدي فقط وعي بأنني موجود، فهذا التمثل الخاص الذي يقوم به الأنا هو تفكير أو وعي وليس معرفة"، هذا التمييز الكانطي بين الوعي بالذات والمعرفة بالذات يفرض علينا إثارة مشكلة حضور العالم في تكوين الوعي بالذات؟ فكيف تم طرح علاقة الوعي بالعالم؟.

إن الذات لا يمكنها أن تتعرف على ذاتها إلا من خلال عملها، وتحديدا من خلال عمل وعيها وانفتاحها على العالم، كما ان هذا العالم لا يحقق حضوره ومعناه إلا بحضور ذات تعي ذاتها فيه، أي حضور وعي ارتدادي، عملية انعكاسية يرتد فيها الوعي إلى ذاته، يعيش شيئا آخر غير ذاته، وهذه ضرورة، ضرورة حضور الوعي كوعي بشيء آخر غير ذاته هي التي تمنح دلالة خاصة لصياغة هوسرل "كل وعي هو وعي بشيء ما"، يرى خوسرل أن الخاصية المميزة للوعي هي القصدية Intentionalité، فالوعي يقصد دوما موضوعا  سواء كان هذا الموضوع يتميز بالحضور أو بالإمكان، ويحمل الوعي في ذاته الشيء المفكر فيه، إن الوعي لا يمكن تناوله كشيء معزول، ولا كعالم ذاتي غير موضوعي، إن الوعي لا داخل له ولا خارج له، فهو المعيش ذاته، وبذلك سيقوم في التصور الفينومينولوجي بوظيفة مزدوجة، إنه ينفتح على العالم ويدركه، وفي إدراكه له يتعرف الوعي على ذاته، غير أن عملية الإدراك الحسي للعالم هي حدث يتم داخل الجسد وناتجة عنه، وموضوعات العالم قبل أن تكون موضوعات للمعرفة أو ظواهر لتأمل الذات هي عبارة عن معان تتحقق وتجارب نعيشها من خلال جسدنا، فالعالم غير منفصل عن وعي الذات، إنه معنى يتحقق والوعي هو مانح هذا المعنى.

سيكون ذلك الكلام صحيحا، إذا اعتبرنا ما يمنح للعالم معناه، ويساهم في تكوين الوعي بذاته هو حضور الآخر، فالآخر يحضر من خلال تجربة الحوار، فالتفكير الذاتي وتفكير الآخر يكونان نسيجا وحيدا، فإذا أخذنا على سبيل المثال الكوجيطو الديكارتي "أنا افكر إذن أنا موجود"، والذي يعتقد ظاهريا أنه عزلة عن العالم وعن الآخرين Solipsisme، فإننا نكتشف ما سماء هوسرل بالبينداتية L'intersubjectivité، أي ضرورة وجود علاقة تفاعلية بين الذوات البشرية، تقوم على التواصل والإنفتاح، فلا يستطيع الإنسان أن يفكر في عزلة مطلقة عن الآخرين، وأشياء العالم لا يمكن أن تكون موضوعات للتفكير بالنسبة لي، إلا بشرط أن تكون موضوعات للتفكير بالنسبة للآخر، فالآخر هو الوسيط الضروري الذي من خلاله اكتشف وجودي في العالم، وبواسطته أكون وعيا بذات، وهذا ما يقصده سارتر عندما يقول "إن الآخر هو الوسيط الضروري بين الأنا والأنا ذاته".

حدود عمل الوعي

اعتقد بعض فلاسفة الوعي، أي أولائك الذين مجدوا عمله ومنحوه سلطة الحضور أنه متمكن من ذاته، لا يستسلم لتدفق المعيش، قادر على إنتاج معرفة موضوعية، كما انه مبدع لعالم ذاتي داخلي لأنا مسؤول، لذلك فكر فيه بعض الفلاسفة باعتباره نموذجا لكل حقيقة ممكنة، لكن هل ما يتوصل إليه الوعي هو حقيقة مطلقة؟ بل حري بنا أن نتساءل هل هذا الوعي واضح ومكتمل بما فيه الكفاية؟.

إن فلاسفة الوعي يتناسون أن أفعال الوعي وتمثلاته، ناتجتين عن تكوين تاريخي للوعي، لذى فالمفاهيم التي ولدها الوعي كأساس للمعرفة لا تشكل تحديدا أبديا ومطلقا للذاتية، بقدر ما هي تراكم لعدد من التأويلات الفلسفية والتاريخية الخاصة، تلك التأويلات التي قوبلت بقراءات وتأويلات مغايرة، وهكذا، وفي سياق نقد فلسفات الوعي والمفاهيم الخاصة التي أنتجتها هذه الفلسفات، قامت قراءة مغايرة لعمل الوعي، قراءة تؤسس تأويلا جديدا للمعنى، وتشكك في الإنتاجات والمعاني المباشرة للوعي، هذه القراءة توضحت معالمها في حقول نظرية علمية وفلسفية مختلفة، وضمت أسماء كل من نيتشه وفرويد وماركس، فمن خلال أعمال هؤلاء المفكرين الثلاثة، أصبحت إنتاجات الوعي تعبيرات ومؤشرات على حقائق اخرى خفية، تعمل في الخفاء، أصبح البحث في المعنى تأويلا لتعبيرات الوعي الظاهرة والمباشرة.

إن الإنسان حسب الألماني فريدريك نيتشه، قادر على التفكير والإحساس والفعل دونما حاجة إلى احتواء هذه السلوكات بواسطة الوعي، ذلك أن الحياة ممكنة دون أن تتأمل ذاتها في المرآة، وإنتاجات الوعي هي تأويلات خاصة، تاريخية نسي الإنسان انها كذلك، فأصبحت بعد استعمال طويل حقائق صلبة ومقننة، ثم نجد عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد يرى في الوعي مجرد منطقة صغيرة في شخصية الإنسان تحاول تمثيل العقل في سلوكه، بحيث يخضع وعي الفرد لمبدأ الواقع القادر على ضمان أمنه وتوازنه، وفي ذلك يضطر نهج طريق الدهاء والمكر ليخفي رغبات في ضغوطات حيوية تصدر من منطقة نفسية لا ندركها مباشرة، وهي اللاشعور، فتمثلات الويع عبارة عن أوهام تخفي حقائق أولية تتكون من الأهواء الرغبات والغرائز.

وفي نفس السياق، نجد الألماني كارل ماركس ينتقد عمل الوعي، بحيث يرى أن تمثلات الناس وأفكارهم لا تعكس حقيقة أو ضاعهم الإقتصادية والإجتماعية، فأصبح الوعي بعدا إيديولوجيا أي تعبيرا وهميا عن علاقات الناس مع ظروف عيشهم، وهي بذلك تحول العلاقات الحقيقية (صراع بين الناس، استغلال، إنتاج...) إلى علاقات وهمية، لذلك ينبغي تأويل الوعي كإيديولوجيا لفضح بعده الحقيقي الذي يقلب كل الحقائق، لكن إذا كان الوعي كما بين ذلك نيتشه وفرويد وماركس هو منبع الأوهام، فإنه كذلك كما بين باروخ اسبينوزا هو الممر الضروري لإزالة الكثير من الأوهام، وهكذا يمكن أن نستعيد المبدأ السقراطي "إعرف نفسك بنفسك"، لجعله دعوة موجهة لكل فرد ليفكر في ذاته وفي علاقته بالآخرين.

ملاحظة هامة

إن هذا المقال هو عبارة عن مقال مقتبس من الكتاب المدرسي للسنة الثانية الثانوي الشعبة الأدبية، كتاب الفكر الإسلامي والفلسفة، طبعة سنة َ1997م، لكن لم يتم نقل المقال حرفيا وإنما قمنا بتعديله شيئا ما لكن هذا التعديل لا يمس المضمون بقدر ما يمس الجانب اللغوي فقط.

اقرأ المزيد

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-