تعرف على قيمة الفلسفة ورهاناتها وعلاقتها بحياة الإنسان
![]() |
قيمة الفلسفة |
عندما نرغب في ربط الفلسفة بحياة الإنسان وانشغالاته اليومية، يبدو للوهلة الأولى بأن هناك تباعد كبير بينهما، ومادام التجريد هو ما يميز اللغة الفلسفية، فإن ذلك يجعل منها صعبة الفهم من طرف عامة الناس، ومن هنا يثار التساؤل حول ما إذا كانت هناك علاقة يمكن أن تجمع بين الفلسفة وحياة الانسان بصفة عامة، بل التساؤل حول قيمة ما تأتي به المذاهب الفلسفية من أفكار ومضامين، إن هذا التساؤل حول علاقة الفلسفة بحياة الناس، يفرض علينا الوقوف عند مصطلح الفلسفة وهذه التسمية بالذات، فقد كان الفيلسوف اليوناني والرياضي البارز فيثاغورس، يرفض أن يسمى حكيما، بل يفضل أن يسمى محبا للحكمة، وكان ذلك في القرن السادس قبل الميلاد، ذلك لأن الحكمة ليست من صفات الإنسان وإنما هي صفة من صفات الآلهة.
عندما نجد فيلسوفا يتخذ موقفا مثل هذا حول الحكمة، فهذا معناه أن مهمة الفيلسوف ليست هي امتلاك المعرفة اليقينية أو الحقيقة الجاهزة بل مهمته هي البحث عنها، فليست الحقيقة الجاهزة سوى وسيلة للسيطرة على الآخرين والتسلط عليهم وممارسة العنف في حقهم، وتلك ليست هي غاية الفلسفة، بل مثل هذه الأمور (السلطة، العنف، السيطرة، ...)، إنما هي مواضيع للفلسفة، فلا وجود للرجل الحكيم كما جاء على لسان ديوجين، فالحكمة من صفات الآلهة وليست من صفات الإنسان المنحط، فقد كان وصف الحكيم يطلق قديما على الرجل الذي يملك نفسا أخلاقية ونبيلة والذي كان يمتهن الحكمة، فكانت بذلك الفلسفة مرادفة للحكمة، في حين أصبح الفيلسوف فيما بعد هو من يسعى إلى بلوغ وامتلاك الحكمة.
محتويات الموضوع
- علاقة الفلسفة بحياة الإنسان.
- البعد الأخلاقي للفلسفة.
- رهانات الفلسفة.
"فيلوصوفيا" Philosophia هي الكلمة اليونانية التي كان يستعملها فيثاغورس، وهي مركبة من جزئين: "فيلو" Philo وتدل على المحبة، ثم "صوفيا" Sophia وتؤشر على الحكمة، وبالتالي فيلوصوفيا تعني محبة الحكمة، وهذا المعنى الاشتقاقي هو ما ظلت لفظة الفلسفة تحمله إلى اليوم، وقد ساهم سقراط اليوناني في ترسيخ هذا المعنى، فجعل من الحكمة خير أسمى يمكن بلوغه من طرف الإنسان، شريطة بذل مجهوده لفهم حقيقة العالم، من خلال قدرته على التحكم في الملذات والأهواء واتباع العقل في قراراته وسلوكاته، لكن ليست المعرفة المترتبة عن ذلك غاية في ذاتها، وإنما الغاية من ذلك النشاط (قدرة التحكم في الأهواء والرغبات)، هو أن يكون الفعل والسلوك الناتج عنه سلوكا وفعلا محمودا.
وهكذا، فالرجل الحكيم هو الذي يملك استعدادا سلوكات وقرارات معقولة عمليا ونظريا، ويملك القدرة على الترفع عن مزالق الحياة الاعتيادية، والتعالي عن الأوهام والأراء الشائعة والسائدة التي تبدو حقائق نهائية ومطلقة لدى عامة الناس، فتكون الحكمة حينها فضيلة تتجلى في هذا النوع من السلوك، لأنها ليست إملاءات ولا تعليمات ولا قوانين حتمية، وإنما الحكمة موقف وقرار مستقل صادر عن وعي من طرف الفرد، ومنسجم مع القيم النبيلة.
شاهد أيضا
عندما تصبح الحكمة على هذا الشأن، تصبح العلاقة بين الفلسفة وحياة الإنسان علاقة تماهي وتداخل، بحيث أن أفكار الجماعة وقيمها وسلوكاتها تصبح موضع نقد وحوار على طاولة الفلسفة من أجل إعادة النظر فيها، فالفلسفة لا تقبل بقيم المجتمع وسلوكاتها إلا بعد وضعها في ميزان العقل الذي يقوم على مبادئ خاصة، فالفلسفة لا تعمل على تحقيق انتظارات الجماعة، بل تشتغل في معزل عنها، وبهذا المعنى فقط تكون الفلسفة خارج المجتمع، وأحيانا أخرى قد تدخل الفلسفة في خصام مع المجتمع، وهو مت حدث لسقراط الذي اتهمه المجتمع اليوناني بإفساد عقول الشباب وحاكمه على ذلك، وهكذا، فاندماج الفلسفة في المجتمع وعزلتها عنه في آن واحد، يجعل منها نوعا من التفكير الذي يتأسس على بعدين ضروريين، وهما البعد الإنساني من خلال اعتبارها للإنسان قيمة من القيم، ثم البعد الأخلاقي وذلك عبر تمردها على التقليد وسعيها المستمر نحو بناء قيم ذات أساس عقلي.
البعد الأخلاقي للفلسفة
لن نبالغ إن قلنا للوهلة الأولى، أن الفعل الأخلاقي في حد ذاته هو جوهر فعل التفلسف، على اعتبار أن قيم الجماعة مطروحة دوما للتفكير والنقاش على طاولة الفلسفة، فجل الإتجاهات الفلسفية ترفض العنف بشكل غير مشروط، فالعنف لا يوجد فقط في حالة اصطدام كرة بأخرى، أو سيارة بمثيلتها، ولا في حالة إتلاف المحصول الفلاحي بفعل عاصفة، ولا ينحصر في المعاملة الدنيئة التي يتلقاها العبد من طرف سيده، ولا في الدولة الاستبدادية ولا في فعل الاستعمار الذي يبخس من قيمة الناس ويذلهم، وإنما العنف هو كل ما نقوم به من أفعال على اعتبار أننا نوجد بمفردنا في الميدان، فالعنف هو حصر مهمة الآخرين في العالم في استقبال فعلنا، فالفعل العنف إذن، هو الفعل الذي لم نساهم في تفاصيله لكننا نخضع له فوق إرادتنا.
إن أخذ هذا التعريف للعنف بعين الاعتبار، نجد بأن الفلسفة تضفي طابعا إيجابيا على المتلقي فتجعله (تفترضه) محاورا مشاركا في عملية إنتاج الأفكار، وبالتالي فالفلسفة لا تخفي خلفياتها عن المتلقي (المحاور) ولا تراوغه، لأنها تعتقد في امتلاكه لملكة العقل كخاصية تميزه عن باقي الكائنات الأخرى، هذه الملكة هي ما يجعله منخرطا في الحوار الذي يقوم في الأساس على اللغة كمجموعة من الرموز، فالعقل واللغة متعاليان عن العنف، فإذا وجد ترابط عمبق بين العقل واللغة والأخلاق، سيكن مفيدا للأخلاق لتطرد العنف عنها بعيدا.
عندما يتبنى الإنسان موقفا رافضا للعنف، يكون حينها ممارسا لفعل التفلسف، لأن إلغاء العنف هو مؤشر على التفلسف كفعل وكموقف، لأن التفلسف هو انخراط حر ومستقل في الحياة العامة، ولا يكون الانخراط مستقلا وحرا إلا إذا كان بتوجيه من العقل، فالانسان الحر هو الذي يسلك ويقرر وفق إرادته العاقلة، ولا يخشى الموت، وكما جاء على لسان الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا أن حكمة الإنسان تكمن في تأمله في الحياة وليس في الموت، وبذلك تصبح الفلسفة نزعة إنسانية من خلال انفتاحها على حياة الإنسان، بمعنى أن الفلسفة أصبحت تجعل من هذا الكائن منطلق تفكيرها وغايته، وفي ذلك اعتراف ضمني بالانسان كجوهر ثابت، بل اعتراف بمكانته البارزة في الواقع، فهو قيمة تتولد عنها باقي القيم، من هنا الاهتمام بالإنسان كذات حرة وعاقلة واحترامه.
رهانات الفلسفة
من الواضح أن الإنسان يستغل قدراته العقلية من أجل السيطرة على الطبيعة والتحكم فيها، كما أن هناك تطور ملموس للعلوم، والذي رافقه في نفس الآن تقدم ملموس من الناحية التقنية والتكنولوجية، وهو الأمر الذي تم استغلاله في تنظيم المجتمع وتسهيل فعل الاستهلاك والسعي المستمر في تطوير ذلك، وبالتالي أصبحنا أمام مجتمع يعتمد على الإنتاج والاستهلاك، ووهكذا أصبح مجتمعا مرهونا بالحسابات الدقيقة لحاجيات الأفراد وقدراتهم الحربية وغيرها، كل ذلك يجعل من التساؤل من جديد حول أهمية الفلسفة ودورها أمرا مشروعا وضروريا، وبالتالي أين تتحلى أهمية الأفكار الفلسفية كأفكار عامة في ظل هذا الوضع؟ وإلى أي حد يمكن الحديث عن ضرورتها أمام القوانين العلمية الدقيقة؟
إن خصوصية اللغة الفلسفية ونقاشاتها تحمل في أحضانها رسالة عميقة، تتجلى في الحرص على قيمة الانسان ككائن عاقل، ومن هنا تتجلى قيمة ومكانة الفلسفة التي أصبحت تتوارى خلف الانشغال الكبير بتطبيق من جاد علينا به التقدم العلمي والتقني، لكن ذلك في حد ذاته يعطي الشرعية لضرورة استمرار التفكير الفلسفي، لأنه يطرح أسئلة ذات طبيعة خاصة لا يمكن للعلم أن يطرحها، والتي تتعلق بذلك التقدم (العلمي والتقني) الذي ينطوي على العديد من المشاكل، وهكذا، فالفيلسوف يحمل على عاتقه مسؤوليات كبيرة اتجاه حياة الإنسان ووجوده.
إن الهدف من تطبيق نتائج العلم على المستوى الواقعي، هو السيطرة على الطبيعة والتحكم فيها من طرف الإنسان، فقد تمكن العلم من جعل الحياة أبسط للعديد من الأفراد، مما يعني أنه ليس هناك استقلال للعلم عن المجتمع، لكن هذا الطابع النفعي لتطبيق نتائج العلوم له انعكاسات على حياة الإنسان، والتي تتجلى في العديد من الأوهام التي أنتجتها المجتمعات الحديثة والمعاصرة، ومن هنا ضرورة حضور الفيلسوف بهدف التفكير في قيمة الإنسان ووضعه داخل هذه الشروط الجديدة، والتساؤل حول ذلك: فأين تتجلى حدود العلوم؟ وما علاقة العلم بالتقنية؟ وفي ظل سيطرة التقنية والعلم كيف يمكن أن يحقق الإنسان وعيا بذاته وبالعالم؟ وفي ظل التحولات الكبرى التي أنتجتها العلوم كيف يتمكن الإنسان من تحقيق الوعي بالطبيعة داخله وخارجه؟ وما هي انعكاسات التقدم التقني على ملكة التخيل عند الإنسان وحريته في الإبداع؟ بمعنى آخر ما أثر ذلك على الابداع الفني؟.
عندما يطرح الفيلسوف هذه التساؤلات ويفحصها، معناه أنه يتأمل في انعكاسات وآثار تطور المجتمع على الانسان، ووضع هذا الأخير فيه، فذلك التطور تترتب عنه قيم جديدة تتجاوز إنسانية الإنسان، وهي قيم تسعى نحو تشييء الإنسان، وبالتالي لابد من اليقضة لمواجهة ذلك، وتلك التساؤلات تعبير عن هذه اليقضة، وقد يبدو من الظاهر أنها تساؤلات راهنة وجديدة، لكن مادامت تساؤلات تستهدف التفكير في الإنسان كقيمة أسمى، فهي قديمة ومستمرة منذ نشأة الفلسفة.
إن الفلسفة تحمل على عاتقها مناهضة الأفكار البديهية المنتشرة دون نقد أو فحص، وتعتبر أفكارا تكشف عن حقيقة الإنسان والمجتمع والعالم، ولكي تواجه الفلسفة ذلك عليها أن تضع كل القضايا المتعلقة به موضع فحص وتفكير، لأن الفلسفة تهتم بتجاوز الوهم والعنف واللاعقل والخلط...، وإحلال محله الوعي والفكر والعقل والوضوح...، وبالتالي فتاريخ الفلسفة ليس هو تاريخ تكرار لأفكار لاقيمة لها ولا أحد يتحمل مسؤوليتها، بل التفكير الفلسفي هو تفكير فعلي له تاريخ يتحمل فيه كل فيلسوف مسؤولية أفكاره، لكن في الوضع الراهن (مجتمع الإنتاج والاستهلاك والدقة في الحسابات) ليس من السهل أن تظهر فعالية هذا النوع من التفكير، لأن فعالية التفكير الفلسفي تحتاج أمدا طويلا للتعبير عن نفسها.
وهكذا، فتفكير الفلسفة في حياة الإنسان هو أمر ضروري، لكنه يبقى رهانا صعبا، وبالتالي على الفلسفة تعقد جلسات متعددة ومستمرة مع ذاتها، والتساؤل حول وظيفتها ومكانتها في بحر المعارف المختلف، لأن الوضع الراهن يفرض ذلك باستمرار، وهذا ما يجعل من سؤال ما الفلسفة؟ يحمل دائما دلالة ومعنى التفكير المستمر في مجال فكري يسعى إلى الحفاظ على أصالته رغم كل التحولات والتغيرات التي تطرأ عليه.
اقرأ المزيد