المقاربة الفلسفية للدين الجزء الأول
![]() |
فلسفة الدين |
لطالما كان الانسان ذلك الكائن المتدين، الكائن الذي يتميز بميول ونزوع نحو المقدس، ويمثل ذلك بالنسبة إليه أملا أو أفق انتظار، وهو ما جعل مقاربة الدين مقاربة فلسفية أمرا ملحا وضروريا، لكن للقيام بذلك ينبغي استحضار عنصرين أساسين يمثلان من بين اهم شروط إمكانية قيام هذه المقاربة الفلسفية، العنصر الأول هو تجريد الدين من الأحكام المسبقة، أما العنصر الثاني فهو ضرورة الوقوف عند المنهج المعتمد في المقاربة الفلسفية للدين.
الأحكام المسبقة حول الدين
يعتبر الحكم المسبق هو ذلك الحكم الذي نصدره عن الأشياء دون مراعات الشروط والمعطيات المتعلقة بذلك الشيء، وقد جاءت الفلسفة على نقيض الأحكام المسبقة، لأن هذه الاحكام في أغلب الأحيان ظنية وعامية صادرة عن جهل الانساء بحقيقة الأشياء، ودائما ما تكون نتائج الأحكام المسبقة نتائج عقيمة ودون جدوى، ومن أخطر النتائج المترتبة عن الأحكام المسبقة هي الدغمائية والتعصب للرأي واللجوء إلى العنف أحيانا، ويستمد الحكم المسبق قوته من التقليد الذي يكون مقدسا لدى عامة الناس وهو الذي يعطي معنى للحياة بالنسبة لهم، وهكذا يمكن القول بأنه ليست هناك فلسفة دين مادامت لا تسائل الأحكام المسبقة حول الدين، وهناك نوعين من الأحكام المسبقة حول الدين، وهي التي سنحاول الوقوف عندها في هذا الموضوع.
شاهد أيضا
الحكم الأول: حكم المتدين عن الدين
إن المقصود بذلك هو حكم رجال الدين الذين يزعمون بأنهم علماء وفقهاء، ونخص بالذكر هنا اولائك الذين شكلوا تنظيمات ومذاهب، وهو ما نطلق عليه الحركات الأصولية، وهي ذات نظرة متطرفة للدين، على اعتبار الحقيقة الدينية حقيقة مطلقة وما دونها سوى أخطاء وأوهام، وهكذا نجد أنفسنا أمام أحكام القيمة حول الدين، فالانسان منذ ولادته له علم ودراية بان الموت يترصد له في كل لحظة ليخطف منه الحياة، لذلك فالانسان يعيش نوعا من الفزع والخوف المستمر في حياته، وفي ظل ذلك تحاول الفلسفة إلى جانب الثقافة والدين والأسطورة التخفيف عليه من هذا الخوف والفزع، من أجل أن يعيش نوعا من الاطمئنان في حياته، ودائما ما يجد الانسان في الدين الجواب الأكثر اطمئنانا وتهدئة بالنسبة له، إلى درجة أنه تم اعتبار الدين مخدرا للإنسان، ويظهر ذلك الاطمئنان جليا حينما يقدم الدين للإنسان حياة أخرى غير هذه الحياة العابرة، على اعتبار الحياة الأخرى حياة أبدية واكثر سعادة واطمئنان، حياة يجد فيها كل شيء جاهز دون بدل أي مجهود، وهو ما يناسب الطبيعة الكسولة للإنسان، فالدين كوني بمعنى شامل للبشرية جمعاء، فكل الحضارات عبر التاريخ عرفت الدين، رغم الاختلاف بين الأديان إلا أنها تشترك في نقطة التخفيف من قلق الموت، والطريق إلى هذا التخفيف هو الإيمان، وهذا ما تؤكد عليه أغلب تأويلات رجال الدين الأصوليين.
إن رجل الدين الأصولي ينظر إلى الدين بأنه يقدم جميع الاجوبة عن الأسئلة الإنسانية، وهو وسيلة الخلاص من الألم والمعانات والقلق لتحقيق السعادة، ومصدر كل هذه الاحساسات الجريحة هو الموت الذي يشعر به الانسان قريب منه جدا، وهكذا فمادامت الفلسفة فكرا يقبل بما يقبل به العقل ويؤمن به، فإنها جاءت ضدا على الأحكام المسبقة، أما الايمان والاعتقاد فمصدرهما ليس عقلي، وهكذا فالدين يبخس الحياة الدنيا من أجل حياة أخرى أبدية.
الحكم الثاني: حكم الحضارة الغربية
إننا نخص هنا الحكم الصادر عن الحضارة الغربية حول الدين في عصر الأنوار، ففي هذه المرحلة كانت النظرة إلى الدين نظرة دونية، باعتباره أدنى مستوى من التفكير الانساني، فهو مرحلة متأخرة في التفكير، وهكذا ففلسفة الأنوار تتصور تاريخ الانسان باعتباره تاريخ محكوم بفكرة التقدم من الأدنى إلى الأعلى، والدين بالنسبة لها يمثل الدرج الأدنى، وهذا حكم متأثر بالمركزية الغربية، باعتبار الحضارة الغربية هي اسمى الحضارات، وهذا مايجعل منه حكم فيه نوع من الأنانية والذاتية.
إن هذان الحكمان يستندان إلى فرضيات لا يمكن الدفاع عنها لأن المسألة الدينية ليست عابرة، وإنما الميل الديني في الانسان هو ميل ثابت وليس مؤقت وعابر، فهو يمثل بعد من أبعاده، كما اننا نجد بأن الدين عاد وبقوة في القرن 21، وهذا دليل على الميل الديني المتجدر في التجربة الوجودية للإنسان، فالدين له علاقة بالطبيعة الغائية وبالطابع النهائي للإنسان، الذي يولد شعورا بالخوف من الموت، بحيث لا يستطيع الانسان العيش في هذا الخوف، وهو ما يدفعه إلى البحث عن الطمأنينة التي لا يجدها سوى في الدين، وذلك من باب الإيمان بالخلود، وهكذا فالميل الديني ميل مترسخ في الانسان، بمعنى أنه بعده الأساسي، وهو من أقدم وأعرق الميولات فيه، ويمكن القول أن الميل الديني هو نزوع نحو قوة مطلقة من اجل أن يستمد منها الإنسان قوة العون للتغلبعلى هشاشته أمام قوة الطبيعة وجبروتها.
إن ما هو معلوم عند الجميع أن الدين هو عبارة عن معتقدات، أما التدين فهو عبارة عن ميل نحو قوة مفارقة، ولا يهم ما هي هذه القوة وماذا تكون، لأن الغرض من ذلك فقط هو تجاوز العجز والهشاشة التي يعانيها الانسان أمام الظواهر الطبيعية، فنزعة التدين هي التي تبرز الطابع الشمولي والكوني للمعتقدات الدينية، وبالتالي نجده المصدر الأساسي لنشأة الحضارة والثقافة، فله الدور الكبير والأهم في الانتقال من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة، فمن الضروري إذن التخلي عن هذين الحكمين المسبقين اللذين لهما نظرة سلبية للدين حيث ينظر إليه إما كخلاص عند الأصولي أو استيلاب عند الأنواري.
المنهج المعتمد في مقاربة الدين
سيكون من الصعب بمكان أن نجمع بين النظرة الشمولية الكونية، والنظرة الخصوصية للدين، وبالتالي يمكن اعتماد ثلاث مناهج أساسية للتمكن من القيام بمقاربة فلسفية للدين، وهذه المناهج الثلاث هي المنهج الفينومينولوجي، ثم المنهج الجينيالوجي، ثم المنهج التفكيكي.
إن المنهج الفينومينولوجي هو منهج يسعى لدراسة الظاهرة الدينية في كليتها وشموليتها، بمعنى أنه يدرس الظاهرة الدينية عامة في الزمان والمكان، ورغم اختلاف الظاهرة الدينية من ثقافة إلى أخرى، إلا أن هناك جوهر ثابت وأساس مشترك وخيط ناظم ييظاهرة الدينية بصفة عامة، وهو ما ينبغي النفاذ إليه والكشف عنه، وهكذا فهذا المنهج يدرس الظاهرة الدينية من الداخل وليس من الخارج، وهو منهج يتحاشى إصدار احكام القيمة، لأنه في دراسته للظاهرة الدينية يقوم بعملية التعليق أو الإيبوخي، ورغم كل هذا إلا أنه متعاطف مع الظاهرة الدينية خاصة من الناحية الانسانية.
اما المنهج الجينيالوجي فهو من جهة منهج يمكننا من إماطة اللثام عن المفاهبم والقيم والتفاسير السائدة حول الدين بهدف فضح لدعاءاتها وكشف الأوهام التي تنطوي عليها، ومن جهة أخرى فإنه يمكننا، عبر الصعود بالظاهرة الدينية إلى أصولها وجدورها، من الكشف عن شروط انبثاقها وظهورها.
أما المنهج التفكيكي فهو يسعى إلى مقاربة الدين من الداخل وليس من الخارج، أي مقاربة الدين من داخل تجربته وخطابه، ومن خلال بياضات الخطاب وتناقضاته وإقصاءات التجربة الدينية واختلافاتها، إنها تسعى غلى كشف عملية المباينة، وهي عملية تشتغل داخل الخطاب الديني، بحيث تنتهي بجعل المعنى يتشظى والدلالة تتأجل والتسمية تستحيل، وهكذا يصبح كل نص يحتاج إلى عدة تأويلات، هذه التأويلات هي التي تعطي للنص حياة جديدة ومعاني ودلالات جديدة، والتسمية غير صالحة لأنها تقتل النص وما يهم في المنهج التفكيكي هو الاقامة في البنية غير المتجانسة للنص بمعنى الذهاب إلى حيث الفجوات والثغرات والبياضات في النص، فالنص قوى تتصارع وعلى المنهج التفكيكي إظهار هذه القوىالتي توجد دخل النص.
فمن خلال هذه المناهج الثلاث سنحاول تجاوز أي حكم مسبق أو نظرة جاهزة اختزالية للدين، بمعنى تجاوز النظرة الذاتية التي تختزل الدين في حكم القيمة، وهذه المناهج الثلاث تقتضي منا النظر إلى الدين فيما وراء الخير والشر، بمعنى عند قراءة النص الديني يجب أن نعرف ما وراء الخير والشر وليس معرفة الخير والشر.
دلالات العودة الراهنة للدين
إن التجربة الدينية المعاصرة تعاش على شكل ثلاث مظاهر وتجليات، يمكن حصرها في: كون أن التجربة الدينية تعاش كعودة لمكبوت، ثم أنها تعاش كانفتاح لجرح، ثم كتفعيل لأثر منسي، هذه هي تمظهرات التجربة الدينية في الوقت الراهنة، وسنحاول الوقوف عند كل مظهر على حدة.
التجربة الدينبة كعودة لمكبوت: عودة الدين في الفترة المعاصرة هي عودة كرد فعل على الكارثة الحداثية ومناهضة لها باسم الرجوع إلى المتعالي المطلق كأساس أول ميثافيزيقي، وهو رد فعل غالبا ما يكون متعصبا وذلك ما نجده في التشدد والتطرف الدينيين، وهكذا فهناك شعور باكتساح حضاري من طرف الحداثة وهي حضارة مادية شكلت سببا مباشرا في حدوث رد الفعل، وبهذا فالحداثة هي المسؤولة عن اجتثات الجدور الأصلية للوجود الإنساني، وفي مقدمتها الأصل الديني.
التجربة الدينية كانفتاح لجرح: إن الانسان منذ ولادته وهو يشعر بالخوف من الموت، وقد جاء الدين ليساعده على تجاوز هذا الخوف من الموت، على اعتبار التجربة الدينية هي الحل، ولكن هذا قد أدى إلى تعميق الجرح لدى الانسان، فأصبح الشعور بالخوفمن الموت أكثر حدة مما كان عليه من قبل، فمخاويف الانسان هي مخاويف قيامية وهي مخاويف تثيرها مخاطر عدة، كخطر اندلاع حرب نووية، وخطر التلاعب بالشفرة الوراثية وغيرها.
التجربة الدينية كتفعيل لأثر منسي: إن مفهوم الأثر هنا هو مفهوم تفكيكي بمعنى شيء مفارق، أي الحضور والغياب، والتعامل مع النص الديني كأثر منسي يعني التعامل معه على أنه منفتح وقابل لعدة تأويلات ومعاني، وبالتالي فالنص يبقى غير كامل المعنى، فالتعامل مع النص كأثر منسي يجعله خاليا من الدغمائية والتعصب، وهناك من يتعامل مع النص الديني في العالم العربي بهذه الطريقة كالعروي والجابري وأركون، وهذا المظهر مرتبط أساسا بتفكيك الأنساق الفكرية الكبرى، أو ما يسمى بأفول المتعالي أو انسحاب الإله، بمعنى أنه قد كلف الانسان بالرسالة التي أنزلها فأصبح هو مستحبا والانسان مكلف.
ملحوظة مهمة
إن هذا المقال لا يمثل سوى الجزء الأول من الموضوع وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها الأستاذ والدكتور محمد الأندلسي بكلية الآداب والعلوم الانسانية جامعة مولاي اسماعيل مكناس، وقد عمل أحد طلابه بتسجيل المحاضرات وتدوينها، وبالتالي إذا كانت هناك أية فكرة غامضة ومبهمة وغير واضحة، فإن ذلك لا يتحمل مسؤوليته الأستاذ الكريم ولا الموقع، وإنما قد يكون السبب في ذلك هو سوء فهم واستيعاب الطالب لما جاء على لسان الأستاذ الكريم أثناء إلقائه للمحاضرات داخل الفصل، وإذا وجدتم أي خطأ فنتمنى أن تشيروا إلى ذلك في التعليقات وشكرا لكم مسبقا، في مقالات أخرى سننشر لكم باقى المحاضرات بعنوان فلسفة الدين عند هيجل، ثم فلسفة الدين عند فرويد أو التحليل النفسي، ثم فلسفة الدين عند نيتشه.
اقرأ المزيد